في أحد شوارع محافظة الجيزة الضيقة ذهبت إلى جمعية "سما" لتنمية المجتمع بمحافظة الجيزة ، وهي الجمعية الموكلة بمتابعة المدمنين الذين يأتون من كل محافظات مصر لحملة "حماية" التي أطلقها الداعية عمرو خالد بالتعاون مع الأمم المتحدة بهدف حماية الشباب من المخدرات، حملت ورقتي وقلمي ومشيت في الطريق وأنا متوقعة أن اجد استجابة محدودة لهذه الحملة، وكانت المفاجأة أن وجدت أمامي مكانا صغيرا يكتظ بالحضور فيما يشبه خلية النحل .. أمهات تبكي وتدعو الله لشفاء ابنائهن من الوحش الكاسر الذي يعبث بمستقبلهم .. وشباب جاء يحمل همومه على كتفيه يتمنى أن يجد في هذا المكان بارقة أمل تخلصه من "فخ" الإدمان الذي سقط فيه ...وآخرون أصحاء يبذلون كل جهدهم لإنقاذ إخوانهم ومساعدتهم على الشفاء . رحلة ساخنة رأيت في أحد الأركان إحدى الأمهات تجلس بمفردها وقد امتلأت عيناها بالدموع، اقتربت منها وسألتها عن سبب مجيئها ، ترددت في البدايه لكني طمأنتها بعدم ذكر اسم ابنها بطل القصة فلم يلبث ترددها أن زال وبدأت في الحديث قائلة: ابني عنده 27 سنة ... عندما كان في التاسعة عشر من عمره لاحظت أنه لا يأكل بشهيته المعتادة وقد أصبح شديد العصبية ، ويعزل نفسه عن كل المناسبات العائلية ، فذهبت به الى طبيب نفسي وهناك عرفت المصيبه وان ابني اللى شقيت عليه عمري كله أصبح مدمنا . وهنا توقفت الأم عن الحديث بعد أن اختنق صوتها بالدموع وبدأت تأخذ نفسا عميقا وتابعت : أقمت معسكرا أنا وأشقائه الاثنين حتى نمنعه من أخذ هذا السم، لم أبخل عليه بالعلاج رغم أنه كان يكلفني 400 جنيه في الاسبوع الواحد وظروفنا المادية لا تسمح بذلك ، وبعد فترة لم ألمس أي تحسن في حالته فلجأت الى الخط الساخن التابع للصندوق القومي لمكافحة الإدمان، وهناك توسلت للاخصائي النفسي أن يقنعه بإحضار اثنين من أصدقائه اللذين كانا سببا في إدمانه إلا أنه رفض طلبي ، وظللت حالته سيئة ، عصبية.. تكسير.. وضرب خصوصا عندما أرفض إعطائه نقودا يشتري بها هذا السم | |
|  | | ادمان مخدرات | | |
|
وأخيرا ابن عمته وصديقه دخلوا إحدى المصحات للعلاج منذ عشرة أيام لأنهم مدمنين مثله ، فاقتنع ووافق على العلاج معهم لكن اليوم بـ130 جنيه وظروفنا صعبة " وتوقفت مرة اخرى عن الكلام وبكت بشدة ، قائلة "أنا جوزي متوفي ومتحملة المسئولية وحدي من سنين طويلة، وبموت في اليوم مليون مرة لما بشوف الحال اللى وصله ابني " ادعى له يا بنتي هو وكل اللى زيه. قالتها وانصرفت... طاقة نور جلست بجوار رجل يقارب الخمسين من عمره ، علمت منه انه مقدم متقاعد ، سألته ماذا أصابه أجاب بصوت حزين :" ابني الصغير عنده 20 سنة كان في ثانوية عامة ، لاحظت تأخره في الدراسة فقام بتحويل مساره ودخل ثانوي صناعي .. وكان دائم السهر مع أصحابه ، وفي يوم أصحابه جاءوا به الى المنزل في حالة سيئة جدا، أسرعت به الى المستشفى وقام الدكتور بعمل غسيل معدة له بعدها خرج وقال لى "ابنك مدمن من سنتين" .. أصابني الذهول ودارت كل الافكار السوداء في رأسي ..فلديه أربع شقيقات متزوجات من رجال لهم مكانه ومن الجائز إذا علموا بخبر ابني أن يطلقوهم ، وبعد فترة هدأ روعي وفكرت كثيرا ولم أجد حلا إلا في العلاج، وذهبت به إلى مصحة لعلاج الإدمان لكنه لم يتحمل البقاء فيها الا أياما قليله بعدها توسل لي أن أخرجه منها وتعهد بالاقلاع عن المخدرات وطلب مني أن يسافر في مكان ساحلي حتى يسترد عافيته، وبالفعل صدقته ولكن طبعا لم ينفذ وعده وازدادت حالته سوءا وجربت معه كل الطرق ..طردته من المنزل ..قطعت عنه المصروف ..كان بيكسر البيت لما نمنع عنه الفلوس .. وانتهي بنا الحال الى هذه الحملة فجئت ربما تكون طاقة نور تخرج ابني من هذه المصيبة" فرحة العيلة وفي مكان ليس ببعيد سمعت حوارا بين سيدتين تحاول واحدة منهما تهدئة الأخرى، وعرفت أن السيدة التي تبكي هي أم لشاب مدمن عمره 28 سنة والأخرى شقيقتها جاءت لتطمأن على هذا الشاب الذي كان يطلق عليه "فرحة العيلة وأحلى شبابها"، اقتربت منهما وتجاذبت معهما أطراف الحديث ، الذي بدأ بقول الأم :" إحنا عائلة متدينة جدا .. منذ ست سنوات حصل لابني الكبير حادث مروع ، وأجريت له جراحة في قدمه وجلس في المنزل ستة شهور كاملة، وكان يعاني من شدة الآلام ، وكان له صديق يداوم على زيارته يجلسان معا ويغلقان الباب عليهما لساعات طويلة ، ظننت أنه يحاول تسليته لكنه في الحقيقة كان يزين له طريق الإدمان .. فأعطاه نوعا من المخدرات استمتع به في البداية لأنه كان يخفف آلام قدمه، إلى أن أفاق فوجد نفسه مع الوقت قد أصبح مدمنا ، أخلاقه ساءت ، وتأخر في عمله ، وانفض عنه أصدقاؤه وبات يقترض أموالا لشراء هذا السم من كل الناس ، لا أعرف متى ينتهي هذا الكابوس الذي حول حياتنا الى جحيم، بكت المرأه بشدة وسألتني فيما يشبه الاستعطاف هو صحيح حملة عمرو خالد ممكن ترجع لى ابنى من تاني؟ معًا نقضي على الإدمان وسط هذه الحالة من الضياع ، لمحت الأمل من جديد في عيون شباب يعملون داخل الجمعية، يتابعون بمنتهى النشاط والحماس حالات المدمنين الذين يأتون من كل محافظات مصر لحملة "حماية" طلبا للعلاج، يتواصلون معهم في سرعة ومهارة ربما لتقاربهم في السن وتوحدهم معهم في الرؤى وطريقة التفكير، وربما لقناعاتهم وإيمانهم بالقضيه التي قرروا أن يشغلوا أوقاتهم للمساهمة في حلها. أو ربما لأن هذه المصيبه تكون قد طالت عزيزا لديهم ولمسوا عن قرب حجم المأساة والشر الذي ينتظر هؤلاء الضحايا. يقول الاستاذ "خالد عبد المنعم" المدير التنفيذي للجمعية أنهم استقبلوا 1700 مكالمة في أول أسبوع من الحملة، أغلبهم من المدمنين أنفسهم يطلبون العلاج والمساعدة ، قائلا :" هذا دليل على الايجابية ورغبة حقيقة في الاقلاع عن الإدمان ". وأشارإلى أن سن الإدمان انخفض في مصر من 17 سنة إلى 11 سنة بين الشباب ، كما أن نسبة 19% من بنات الثانوي يشربون البانجو، 15% من طلاب الجامعة يتعاطونالمخدرات، مؤكدا أن محافظة الاسكندرية تشهد إقبالا غير مسبوق على المخدرات بأنواعها،وأن الانفاق السنوي على هذه التجارة بلغت نحو 16 مليار جنيها سنويا ، وهي السلعة الوحيدة في عالمنا العربي التي لم تطولها نوبات ارتفاع الأسعار ، بل أصبحت متاحة وبأسعار زهيدة، وغالبا ما تكون الحقنة أوالشمة الأولى - ولن تكون الأخيرة بالطبع - هدية في معظم الأحيان وهذه هي الطامة الكبرى . | |
في طي الكتمان
ويؤكد مدير الجمعية التزام الحملة بسرية معلومات المدمن ، مشيرا إلى أن "اختيار مكان جمعية "سما" في احدى الشوارع الضيقة بمحافظة الجيزة هي محاولة للحفاظ على الخصوصية، فمعظم المدمنين وأسرهم يخشون الفضيحة ، فكان لزاما علينا البحث عن مكان بعيد إلى حد ما عن الأعين" .
ويضيف :" العقبة التي تواجهنا أن تسعين في المائة من الأهالي الذين يطلبون العلاج لأبنائهم فقراء، وتكاليف علاج الإدمان مرتفعة جدا تتراوح ما بين 700 إلى 45 ألف جنيها ، ويختلف المبلغ على حسب المكان الذي يتم فيه العلاج ما بين منتجع سياحي يوفر للمدمن البيئة المناسبة ، وبين غرفة بها ثلاث أفراد ، ودور حملتنا أنها تقوم بدور الوسيط بين مراكز علاج الإدمان المتخصصة التي تقرر التنازل عن نسبة كبيرة من تكاليف العلاج وبين أهالي المريض الذين يختارون المبلغ المناسب لهم، وفي حالة وجود حالة فقيرة جدا يتم جمع البيانات الخاصة بها وبحث الحالة ، ومحاولة ايجاد مكان يوفر خدمة العلاج المجاني".
ودعا "عبد المنعم" المجتمع إلى التفاعل بقوة مع حملات الإدمان والتبرع من أجل إنقاذ ابنائنا وشبابنا ، مشيرا إلى أن طبيب تحاليل اتصل بالحملة وتعهد بتقديم مبلغ ما بين 1000 – 500 ألف جنيها مكافأة للمريض الذي يتعافى ، مشيرا إلى أن مدرسة "بي بي سي" والجامعة البريطانية ومدرسة في محافظة شبين الكون تفاعلوا مع الحملة، ونظموا فعاليات خاصة للتعريف بـ"حماية" والتشجيع على جمع التبرعات للمساهمة في علاج المدمنين .
العلاج ممكن
يقول "أحمد عبد المنعم" من العاملين بالحملة :" نستقبل يوميا مدمنين حالتهم مدمرة تماما ، ومشكلتهم الاساسية أنهم يتمتعون بوضع اجتماعي حساس، ولا يستطيعون العلاج في مصحات معروفة خشية الفضيحة ، ونحاول إقناعهم باتباع طريقة علاج نصف اليوم ، حيث يقيم المدمن بشكل كامل أول خمس أيام في مركز إعادة التأهيل، وهي المرحلة الأولى للعلاج والتي تعرف باسم "الديتوكس" أو انسحاب المخدر من الجسم ، وهي أصعب المراحل التي يمر بها المدمن في العلاج .
وفي المرحلة الثانية يأتي المدمن عدة ساعات فقط على مدار اليوم لحضور جلسات الفضفضة "NA" مع المدمنين ، والتي تتيح له الفرصة للتعبير عن مشاعره بصراحة ودون خجل ، كما أنها تمثل حائط صد لحماية المدمن من الانتكاسة بعد العلاج .
ويؤكد "أحمد" على أن علاج الإدمان ممكن مستشهدا بقصة من الواقع قائلا :" جاءنا شاب كان منبوذا بقوة في أسرته بسبب إدمانه، وكان يحب أولاد أخته بشدة ، وذات يوم جاءت أخته لزيارتهم في المنزل ، فقام بأخذ ابنها الصغير ليشتري له بعض الحلوى من محل مجاور لهم ، فإذا بأخته تصرخ بشدة وتطلب منه أن يبتعد عن الولد ، حينها شعر أنه مهان وقرر العلاج ، وبالفعل هو الآن متعافي منذ 4 سنوات". ويروي قصة حالة أخرى :" ...." شاب قرر أن يقلع عن الإدمان وطلب من والدته أن تغلق عليه باب الغرفة خمسة ايام لمواجهة أعراض انسحاب المخدر من جسمه ، وبعد ثلاثة أيام بدأ في الانهيار من شدة التعب وكان يفكر في الرجوع إلى المخدرات ، وجاء أولاد اخوه الصغار وتسللوا ببراءة الى غرفته ونظرت الصغيرة له وبكت وخرجت من الغرفة ، فاتصل على الفور بمركز لعلاج الإدمان وطلب منهم مساعدته ، وهو أيضا تعافى تماما منذ سنتين تقريبا . نماذج مضيئة |
|
|
 |
|
مدمن مخدرات وكحولايات |
| |
|
ومن النماذج المشرفة التي التقيت بها الاستاذة " أمل سليمان" مسئولة فريق حماة المستقبل في جمعية "الخير كتير" قائلة:" تأثرت بالعمل لمواجهة خطر الإدمان ، عندما علمت أن هناك خمسة مليون شاب وقعوا في هذا الفخ ، وشعرت أن هذا الخطر ليس ببعيد عني وعن اخي الصغير فقررت أن أشارك في الحملة وفي مواجهة هذا الشبح بكل ما وهبني الله تعالى من قوة.
وأضافت :" أحيانا أخاف من المدمن من نظراته وتصرفاته وأتوقع منه تصرفات سيئة ، لكن ماذا سنتظر هل نترك الخوف يتملك منا حتي يصبح الخمسة مليون مدمن عشرة أو خمسة عشر " ، أدعوالشباب الأصحاء إلى تقديم المزيد من الأفكار لدعم الحملة ولمواجهة هذا الخطر والعمل من أجل خدمة المجتمع ، وأقول لهم :" اشغلوا أنفسكم حتى لا تقعوا في خطر الإدمان والتعاطي".
ووجهت سليمان كلمة إلى كل مدمن :" إلحق نفسك والعلاج ممكن " ، وإلى أقاربه قالت :" اصبروا واحتسبوا ، وادعوا ربنا والفرج قريب جدًا ان شاء الله".
كما التقيت بالاستاذة "شهيرة" التي تنظم دخول المدمنين إلى الأخصائي الذي يقنع المرضى بأهمية العلاج ، ومن شدة انشغالها لم اأستطع الحديث معها ، إلا أني سمعت دعاء أهالي المرضى لها بأن يمن عليها المولى بالصحة والعافية ، من حسن معاملتها ووجها المتبسم ، كذلك شاب لم أعرف اسمه رأيته وهو يقبل يد أم جاءت لتطمئن على حال ابنها وهو يقول لها "ربنا موجود يا امي ادعي له وربنا يتمم له الشفاء"
وفي النهاية أضم صوتي الى صوتكم الذي أكاد أسمعه يهمس بالشكر لكل من يفكر في خدمة شباب أمتنا العربية ..ويدعو جميع مؤسسات وقطاعات المجتمع إلى التكاتف من أجل مواجهة اليد التي تغتال أبناءنا من الإدمان.
| 
